/ وكانت النهاية ! /
كان اسمها أمال. كنت قد تعرفت عليها بإحدى الحدائق العمومية . كم كانت جميلة ! أما الحجاب الذي كانت ترتديه، فلقد كان يزيدها رونقا وجاذبية ! اقتربت منها، وما كدت أن أفتح فمي لأقول لها، لست أذكر ماذا حتى قامت من مكانها وابتعدت لتجلس في مقعد آخر. قلت في نفسي " إنها تتصنع العفة والطهارة، أعرف ذلك ! "
لحقت بها لأقول لها، وأنا أمزح " لاتقولي أنني لم أعجبك؟ " لم تعر أي اهتمام لكلامي، ثم قامت لتغير المكان وهي تتنهد بعمق. كانت نظراتها تشكل تهديدا صارخا لي. " آه منكن أيتها الفتيات .. إني أعرفكن جيدا ! تبدأن دائما بالقسوة، بحيث لايعرف الشخص كيف الوصول إلى مايبغيه منكن، لكن سرعان ما يتغير كل شيء، فتصبحن لينات، رقيقات، أكثر ترحابا، وأكثر وهنا عاطفيا ! "
لكن أمال كانت تختلف جوهريا عن كل الفتيات ! عن كل اللواتي كنت قد تعرفت إليهن لحد الآن، على الأقل ! قبل كل شيء، لم تكن ترتدي الحجاب فقط لتغطي شعرها، بل كان ذلك عن عقيدة دينية ! كانت تتشبث بتعاليم الدين الإسلامي على الطريقة المثلى ! ماذا، كيف عرفت هذا كله ! عفوا، لم أقل لكم كل شيء ! لقد مضى شهران الآن على تعارفنا، منذ ذلك اللقاء الجميل في تلك الحديقة العمومية ، ونحن الآن - ربما لن تصدقوني - قد عقدنا العزم على أن نتزوج !
آه لو كنتم تعلمون ! كانت الكلمات العذبة والصادقة تأتي في كل مرة لتغذي قلوبنا المتعطشة للحب والحنان ؛ كان الحب الذي نكنه لبعضنا البعض يسري في العروق وفي القلب وفي كل أنحاء الجسم، كما كنا نحس بذلك.
أمال كانت فتاة رائعة ومميزة. كانت تكبر إخوتها، وبعد أن توفي أبوها في حادثة سير مأساوية، ارتأت أن تغادر المدرسة لتبحث عن عمل؛ كان يجب أن تعول عائلتها وتلبي جميع حاجياتها. قالت لي مرة، وعيناها تفيض من الدمع " لقد كانت دراستي شيء مهم في حياتي، لكن عائلتي كانت أهم ! "
سوف نتزوج لأن حبنا كان حقيقيا، أضف إلى ذلك أننا كنا منسجمين في كل شيء، وكان الإحترام المتبادل بيننا عميقا جدا.
ذات يوم، استجمعت قواي ثم قلت لها ، وبتمعن أنني سأطلب يدها عما قريب من أمها. كادت أن تفقد عقلها من شدة الفرح ! لم أنتظر طويلا، وقمت فعلا بزيارة لأمها ، بغية بادىء ذي بدء التعرف عليها . يالها من امرأة ! طيبة جدا، ولطيفة جدا؛ كلامها كله حكم ! امرأة عادية، لكن عظيمة !
أعترف أنني كنت محظوضا جدا، كوني تعرفت على عائلة من هذا النوع؛ لقد بدأت أرى بوضوح معالم مستقبل زاهر ترتسم أمام عيني ؛ مستقبل كله سعادة ، وحب للحياة ! أيمكن للإنسان أن يتمنى أحسن من هذا ؟ بالطبع لا !
لكن سيحدث شيء فجأة . . شيء سيفسد علي كل هاته الفرحة، وهاته السعادة التي طالما حلمت بها ! ماكدت أغادر هاته العائلة الشريفة، وهاته المرأة المثالية، بين قوسين مضاعفين حتى بدأت الأفكار السوداء تضايقني وتتعب دماغي، ككل مرة.
" انتهى الأمر، وسقطت في الفخ ! " ؛ " وإذا كان كل هذا تمثيلا في تمثيل ! " ؛ " أليس كيد النساء عظيما جدا ! " ؛ "مسكين، لقد لعبوا عليك ! "
وصلت إلى منزلنا بعد نصف ساعة. كان قلبي يؤلمني، وكان لون وجهي شاحبا.
تناولت الغذاء دون شهية، ثم نمت قليلا. في المساء، أخذت حماما ساخنا، ثم ارتديت ملابسي بسرعة وخرجت. وأنا في الطريق، اعترفت لنفسي بأنني كنت مخطئا في تقديري للأشياء " أمال فتاة رائعة ، ياأخي .. وأمها امرأة فاضلة ! يالأفكارك السوداء ! "
استقليت سيارة أجرة لأذهب إلى المدينة. كم شربت تلك الليلة ! غادرت الحانة وأنا في حالة سكر طافح. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف مساء. ياإلاهي، ماالخطب ! هاهي الأفكار السوداء تنتابني من جديد، والشكوك تساورني وتأكل جسدي ! كنت أتألم وأنا أشعر بضيق كبير. اشتقت إلى أمال، لكني كنت أتمنى في نفس الوقت ألا أراها أبدا ! كنت عاجزا تماما على أن أحدد ماأريده بالضبط ! كنت أسير دونما أي اتجاه، في ظل مخاطرة إصابتي من إحدى السيارات؛ ولما كنت أتأهب لأقطع الشارع، وأنا أتمايل يمينا وشمالا، جاءت سيارة فخمة من نوع مرسيدس، وكانت تسير بسرعة فائقة لتفرمل بقوة بالقرب مني؛ وجدتني أضطرب من شدة الفزع . ماهي إلا سنتيمترات، وكانت ستقلبني ! رفعت يدي وأنا أطلب السماح من صاحب السيارة الذي كان يتفحص وجهي بشيء من الود . كان شابا في الثلاثين من عمره، أنيقا؛ وكان الشخص الذي يجلس بجانبه في نفس سنه، ولا يقل عنه أناقة.كانت رائحة الخمر تفوح من أ فواههما .
ياإلاهي ! ياإلاهي، ماذا أرى؟! لا ينبغي أن يكون هذا أمرا حقيقيا ! أمال، مستحيل ! قولوا أي شيء غير هذا ! لقد كنت سكرانا حقا، لكني كنت على يقين أن أمال - نعم، أمال ! - كانت توجد من بين ثلاث أو أربع فتيات ممن كن يتكدسن في المقعد الخلفي لسيارة المرسديس ! لا، لايمكن أن أخطأ ! كانت حقا هي، بحجابها الأسود وعينيها السوداوتين !
انطلقت السيارة مجددا لتختفي فجأة، وهي تسلك بصعوبة منعطفا على اليمين. كان قلبي يدق بطريقة غير معقولة وأحسست بالدوار.
ياإلاهي، ماذا أفعل ؟ لن أظل مكتوف الأيدي بالطبع، يجب أن أفعل شيئا؛ لكن ماذا ؟ اه، أتلفن لها أولا لأتيقن من كل شيء ! وفعلت. أجابتني أمها : ألو ، من معي ؟
- لالة فاطنة، مساء الخير؛أريد أن أتحدث إلى أمال !
- ليست هنا . من أنت ؟
- أنا عادل ، أنا الذي زرتكم في صباح اليوم . .
أغلقت المرأة الخط في وجهي. لا، هناك شيء غير طبيعي؛ لكن ماهو ؟ هذا ماأقسمت أن أعرفه الليلة قبل الغد !
وتحضرني فكرة !
استقليت سيارة أجرة، وفي أقل من نصف ساعة، كنت قد وصلت إلى الحي الذي كانت تقطن به. شكرا لك يارب : في الوقت الذي كنت أدفع الحساب لسائق السيارة، كانت هي تنزل من سيارة المرسديس السوداء، وهي تودع أصدقاءها بابتسامة عريضة ! هاهي الآن تسرع الخطى لتعبر الشارع. صحت بأعلى صوتي، وأنا أستشيط غضبا : أمال ! وقفت فجأة، ثم استدارت وكلها حيوية. كنت قريبا منها. قالت، وقد رسمت على محياها ابتسامة خلابة.
- عادل .. ماذا تفعل هنا ؟
- أنا الذي يضع الأسئلة ! أين كنت في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟
- أنا . . كنت . .
- هيا، قولي !
- عادل .. أنت سكران ، حبيبي !
- لست حبيبك ! أين كنت ؟
- كنت عند ابنة خالتي التي تسكن في آخر الدرب !
- كذابة ! ألست أنت التي رأيت قبل مدة في المدينة، في سيارة مرسديس سوداء ؟
- أنا في مرسديس . .
- نعم، أنت للأسف ! وليس من قبيل الصدف أن تنزلي ، قبل لحظة من نفس السيارة . .
- لكن عادل . .
- وليس من قبيل الصدف أيضا أن يكون السائق الذي رأيته ، وأنت تودعينه هو نفس الشخص الذي رأيته قبل نصف ساعة ، على متن نفس السيارة !
أصبح لون وجهها شاحبا، وبدأت ترتعش. لو كان لي عليها أي سلطان لكسرت وجهها، دون أن أتردد لحظة واحدة؛ وبكل مافي الكلمة من معنى ! لكني سأعرض نفسي للسجن، في حالة ماإذا قدمت بي شكوى. فهي ليست زوجتي، ولا خطيبتي؛ هي موعودة لي بالزواج فقط.
أمعن كل منا النظر في الآخر لبضع ثواني، في صمت هائل. بعد ذلك قلت لها، وبلهجة قاسية جدا " أريد أن أخبرك من كل أعماق قلبي بأنني أصبحت لاأحبك ! بل قولي إني أصبحت أكرهك ! "
طأطأت رأسها من الخجل، ثم انصرفت ولم تقل شيئا. كانت تسرع في مشيتها وقد كثر عثارها. لما ابتعدت، التفتت خلسة لترى هل مازلت هنا أم لا. وانتهت قصتنا !
وداعا لشيء اسمه الحب ! وداعا لشيء آخر اسمه الزواج ! و لتعد حليمة ( أو تعد ريمة ) لعادتها القديمة ! هاأنذا أعود إلى الحانات، وقد أدمى الغدر قلبي؛ أعود لمعاشرة المومسات ياللأسف، وبنات الليل ! حياة فاسدة حقا، و خالية من الشرف، لكن ليس فيها على الأقل كذب أو خداع !
مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق